التقديم والتأخير في القرآن الكريم
الدكتور فاضل السامرائي
القسم الرابع والأخير
جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله:
** ومن ذلك قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (72)}(الأنفال)
وقوله :{ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}(التوبة)
فقدم الأموال والأنفس على { في سبيل الله } في سورة الأنفال وقدم { في سبيل الله } على الأموال والأنفس في سورة التوبة، وذلك لأنه في سورة الأنفال تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة من مثل قوله تعالى :{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا (67)}(الأنفال) وهو المال الذى فدى به الأسرى أنفسهم وقوله :{ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}
(الأنفال) أي من الفداء،وقوله: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا (69)}(الأنفال) وغير ذلك فقدم المال ههنا، لأن المال كان مطلوباً لهم حتى عاتبهم الله في ذلك فطلب أن يبدؤوا بالتضحية به.
وأما في سورة التوبة فقد تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله من مثل قوله تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} ،
وقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
وقوله: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ (19)}،(انظر البرهان للكرماني 203، درة التنزيل 189 ـ 190) .فقدم ذكر (في سبيل الله) على الأموال والأنفس وهو المناسب ههنا للجهاد كما قدم الأموال والأنفس هناك لأنه المناسب للأموال.
وترى الفلك مواخر فيه:
**ومنه قوله تعالى: { وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ (14)}(النحل)
وقوله : { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ (12)}(فاطر)
قّدم { مواخر }على الجار والمجرور في النحل وقدم { فيه } على مواخر في فاطر. وذلك أنه تقدم الكلام في النحل على وسائط النقل فذكر الأنعام وأنها تحمل الأثقال وذكر الخيل والبغال والحمير لنركبها وزينة ثم ذكر الفلك وهي واسطة نقل أيضاً فقال : { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)}(النحل)
قدّم المواخر لأنها من صفات الفلك وهذا التقديم مناسب في سياق وسائط النقل. وليس السياق كذلك في سورة فاطر وإنما قال الله تعالى :
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) فاطر) ثم قال { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}.
فالكلام هنا على البحر وأنواعه وما أودع الله فيه من نعم. فلما كان الكلام على البحر قدم ضمير البحر على المخر فقال :{ وترى الفلك فيه مواخر }.
فانظر كيف أنه لما كان الكلام على وسائط النقل والفلك قدم حالة الفلك ولما كان الكلام على البحر ذكر ما يتعلق به.
ولقد صرفنا في هذا القرآن:
** ومن ذلك قوله تعالى :{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)}(الإسراء)
وقوله :{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا
(54)}( الكهف)
قدم { للناس } على { في هذا القرآن } في الإسراء وأخّرها في الكهف وذلك لأنه تقدم الكلام في الإسراء على الإنسان ونعم الله عليه ورحمته به فقال: { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) ) إلى أن يقول { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}،
فناسب تقديم الناس في سورة الإسراء. ولم يتقدم مثل ذلك في سورة الكهف.
ثم انظر في افتتاح كل من السورتين فقد بدأ سورة الكهف بقوله :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ (2)}،
فقد بدأ السورة بالكلام على الكتاب وهو القرآن ثم ذكر بعده أصحاب الكهف وذكر موسى والرجل الصالح وذكر ذا القرنين وغيرهم من الناس، فبدأ بذكر القرآن ثم ذكر الناس فكان المناسب أن يتقدم ذكر القرآن على الناس في هذه الآية كما في البدء.
وأما في سورة الإسراء فقد بدأت بالكلام على الناس ثم القرآن فقد بدأت بقوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (1) } ثم تكلم على بني إسرائيل ثم قال بعد ذلك: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} فكان المناسب أن يتقدم ذكر الناس فيها على ذكر القرآن في هذه الآية وهذا تناسب عجيب بين الآية ومفتتح السورة في الموضعين.
ثم انظر خاتمة الآيتين فقد ختم آية الإسراء بقوله { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)} والكفور هو حجد النعم فناسب ذلك تقدم ذكر النعمة والرحمة والفضل ألا ترى أن مقابل الشكر الكفران ومقابل الشاكر الكفور قال تعالى { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
(3) }(الإنسان) فكان ختام الآية مناسب لما تقدم من السياق.
أما آية الكهف فقد ختمها بقوله: { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)} لما ذكر قبلها وبعدها من المحاورات والجدل والمراء من مثل قوله تعالى: { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ
(34)} وقوله :{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ (37) ) وبعدها: { وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ..(56)} وذكر محاورة موسى الرجل الصالح ومجادلته فيما كان يفعل. وقال : { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا (22)}، ولم يرد لفظ الجدل ولا المحاورة في سورة الإسراء كلها. فما ألطف هذا التناسق وما أجمل هذا الكلام!.
لا يقدرون على شيء مما كسبوا :
** ومن ذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}(البقرة)
وقوله: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}(ابراهيم)
فقال في آية البقرة : { لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } فقدم الشيء وأخّر الكسب.
وقال في سورة ابراهيم : { لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ } فقدم الكسب وأخر الشيء وذلك أن آية البقرة قي سياق الإنفاق والصدقة والمنفق معطٍ وليس كاسباً ولذلك أخّر الكسب فقال : { لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا }، وأما الآية الثانية فهي في سياق العمل والعامل كاسب فقدّم الكسب.
لتطمئن به قلوبكم :
** ومن ذلك قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}(آل عمران)
وقوله : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)}(الأنفال)
فقدّم القلب على الجار والمجرور في آل عمران فقال: { ولتطمئن قلوبكم به } وأخّرها عنه في الأنفال فقال { ولتطمئن به قلوبكم } علماً بأن الكلام على معركة بدر في الموطنين غير أن الموقف مختلف.
ففي آل عمران ذكر معركة بدر تمهيداً لذكر موقعة أحد وما أصابهم فيها من قرح وحزن والمقام مقام مسح على القلوب وطمأنة لها من مثل قوله تعالى: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
(140)}(آل عمران) إلى غير ذلك من آيات المواساة والتصبير فقال في هذا الموطن: { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } ، فذكر أن البشرى (لهم) وقدم (قلوبهم) على الإمداد بالملائكة فقال: { إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } كل ذلك من قبيل المواساة والتبشير والطمأنة.
ولما لم يكن المقام في سورة الأنفال كذلك وإنما المقام ذكر موقعة بدر وانتصارهم فيها ودور الإمداد السماوي في هذا النصر وقد فصل في ذلك أكثر مما ذكر في آل عمران فقال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)}.
أقول لما كان المقام مختلفاً خالف في التعبير. أنه لما كان المقام في الأنفال مقام الانتصار وإبراز دور الإمداد الرباني قدم { به } على القلوب والضمير يعود على الإمداد. ولما كان المقام في آل عمران هو الطمأنينة وتسكين القلوب قدمها على الإمداد فقال { وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } وزاد كلمة { لكم } فقال { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ } زيادة في المواساة والمسح على القلوب فجعل كلاً في مقامه.
وما أهل به لغير الله :
** ومن ذلك قوله تعالى : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}(البقرة)
وقوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (3)}(المائدة)
وقوله: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}(الأنعام)
فقد قال في آية البقرة: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } فقدم { به } على { لغير الله } ومعنى { ما أُهل به } : ما رفع الصوت بذبحه وهو البهيمة.
وقال في آيتي المائدة والأنعام: { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } فقدّم { لغير الله } على { به }،
وذلك أن المقام في آية الإنعام هو في الكلام على المفترين على الله ممن كانوا يشرعون للناس باسم الله وهم يفترون عليه فقال: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)}(الأنعام) إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن ثمة ذوات غير الله تحلل وتحرم مفترية على الله، وذوات يزعمون أنها شركاء لله تعبد معه ونصيبها أكبر من نصيب الله في العبادة، ولذا قدم إبطال هذه المعبودات من غير الله على { به } فقال: { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } لأنه هو مدار الاهتمام والكلام.
والكلام في المائدة أيضاً على التحليل والتجريم ومن بيده ذلك، ورفض أية جهة تحلل وتحرم من غير الله فإن الله هو يحكم ما يريد. قال سبحانه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}(المائدة) ، فهو يجعل التحليل والتحريم بيده ويرفض أية جهة أخرى تقوم بذلك، لأن ذلك من الشرك الذي أبطله الإسلام ولذا قدمه في البطلان فقال : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }.
ثم إنه جاء في الموطنين بذكر اسم الله على الذبائح فذكر في آية الأنعام أن المشركين لا يذكرون اسم الله على بعض ذبائحهم تعمداً فقال: { وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا }. وأمر في آية المائدة بذكر اسم الله فقال: { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فناسب ذلك تقديم بطلان ذكر غير الله.وأما في البقرة فليس المقام كذلك فلم يذكر أن جهة أخرى تقوم بالتحليل والتحريم وإنما الكلام على ما رزق الله عباده من الطيبات فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا (168) البقرة). وقال بعدها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}(البقرة) ، فلما كان المقام مقام الرزق والطعام بأكل الطيبات قدم { به } والضمير يعود على ما يذبح وهو طعام مناسبة للمقام (انظر ملاك التأويل 1/107 ـ 108) ، والله أعلم.
يخسف بكم الأرض:
**ومن ذلك قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ.أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)}(الملك)
وقوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ (65)}
( الأنعام) ،فقدّم خسف الأرض على إرسال الحاصب في آية الملك وأخّر العذاب عما يأتي من السماء في آية الأنعام. وذلك أن آية الملك تقدّمها قوله تعالى { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}(الملك) ، فكأن أنسب شيء في الموعظة تذكيره بخسفها من تحتهم.
"أما آية الأنعام فتقدمها قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)}(الأنعام) ، فصرف هذا الخطاب تفكر النفس في عين الجهة التي ذكر منها القهر، وكان أنسب شيء ذكر منها القهر وكان أنسب شيء ذكر التخويف من تلك الجهة بخلاف آية الملك." (ملاك التأويل 2/908) .
ومما زاد ذلك حسناً قوله تعالى : { ويرسل عليكم حفظة } والحفظة: هم الملائكة، والملائكة مسكنهم في السماء، وربنا يرسلهم من فوق فناسب تقديم هذه الجهة على غيرها.
ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة فإن فيها كفاية فيما أحسب فهي تدل دلالة واضحة على أن التعبير القرآني تعبير مقصود كل لفظ فيه وضع وضعاً فنياً مقصوداً وأنه لم يقدم لفظة على لفظة إلا لغرض يقتضيه السياق. وقد روعي في ذلك التعبير القرآني كله ونظر إليه نظرة واحدة شاملة.
وأظن أن ما مر من الأمثلة تريك شيئاً من فخامة التعبير القرآني وعلوه وأن مثل هذا النظم لا يمكن أن يكون في طوق بشر فسبحان الله رب العالمين.
(من كتاب التعبير القرآني للدكتور فاضل السامرائي. من صفحة 49 – 74)
قال تعالى:
"وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"
الآيتين 138-139 سورة آل عمران