التقديم والتأخير في القرآن الكريم
الدكتور فاضل السامرائي
القسم الثالث
وقد يكون التقديم لملاحظ أخرى تتناسب مع السياق فنراه يقدم لفظة في موضع ويؤخرها في موضع آخر بحسب ما يقتضي السياق.
النفع والضر :
** فمن ذلك تقديم لفظ الضررعلى النفع وبالعكس قالوا: إنه حيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع. قال تعالى :
{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (188)}(الأعراف) فقدم النفع على الضرر وذلك لأنه تقدمه في قوله :
{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}(الأعراف) ،فقدم الهداية على الضلال، وبعد ذلك قال سبحانه:
{ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)(الأعراف) فقدم الخير على السوء ولذا قدم النفع على الضرر إذ هو المناسب للسياق.
وقال عز وجل: { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (49)}(يونس) ،
فقدّم الضرر على النفع وقد قال قبل هذه الآية:
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}(يونس)
وقال سبحانه:
{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ (12)}(يونس).
فقدم الضر على النفع في الآيتين . ويأتي بعد هذه الآية قوله:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}(يونس) ، فكان المناسب تقديم الضرر على النفع ههنا.
وقال جل شأنه:{ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا(16)}( الرعد) فقدّم النفع على الضرر، قالوا: وذلك لتقدم قوله تعالى:
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)}(الرعد) فقدم الطوع على الكره.
وقال: { فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا (42)}(سبأ) فقدم النفع على الضر قالوا: وذلك لتقدم قوله :
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَه(39)}(سبأ) فقدم البسط.
وغير ذلك من مواضع هاتين اللفظتين. (انظرالبرهان 1/122 ، البرهان للكرماني 197 وما بعدها 349 درة التنزيل 209) .
الرحمة والعذاب:
** ومن ذلك تقديم الرحمة والعذاب فقد قيل إنه حيث ذكر الرحمة والعذاب بدأ بذكر الرحمة كقوله تعالى :
{ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ (18)}(المائدة)
وقوله:{ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)}(فصلت)
وقوله: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
(3)}(غافر)
وعلى هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى :" إن رحمتي سبقت غضبي"
وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب ترهيباً وزجراً. من ذلك قوله تعالى في سورة المائدة :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}
لأنها وردت في سياق ذكر قطاع الطرق والمحاربين والسرّاق فكان المناسب تقديم ذكر العذاب وذلك أنها وردت بعد قوله تعالى:
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (32)}
فقدم القتل على الإحياء ثم قال بعدها :
{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} ثم جاء بعدها :
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(38)} ،
ثم جاء بعدها قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}.
فأنت ترى أن المناسب ههنا تقديم العذاب على المغفرة. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى:
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } إلى قوله : { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ } ،
"فإن قلت لم قدم التعذيب على المغفرة؟
قلت لأنه قوبل بذلك تقديم السرقة على التوبة"(الكشاف 1/460، وانظرملاك التأويل 1/138 وما بعدها، 1/252 وما بعدها) .
ومن ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت :
{ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)}، وذلك لأنها في سياق إنذار إبراهيم لقومه ومخاطبة نمرود وأصحابه وأن العذاب وقع بهم في الدنيا. (انظر البرهان 4/63 ـ 64، البرهان للكرماني 111،370) فقد أنذر إبراهيم قومه، قال تعالى:
{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) ثم قال:
{ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)} وهددهم بعد بقوله :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } فترى أن السياق يقتضي تقديم العذاب هنا.
وقد يكون التقديم والتأخير على نمط غير الذي ذكرت من تقديم الضرر والنفع والعذاب والمغفرة وغيرها من الخطوط العامة.
فقد يقدم لفظة في مكان ويؤخرها في مكان آخر حسبما يقتضيه السياق.
فجاجا سبلا :
**فمن ذلك قوله تعالى :
{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}(الأنبياء)
وقوله:
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}(نوح) فقدم الفجاج على السبل في الآية الأولى وأخرها عنها في آية نوح وذلك أن الفجّ في الأصل هو الطريق في الجبل أو بين الجبلين، فلما تقدم في آية الأنبياء ذكر الرواسي وهي الجبال قدم الفجاج لذلك بخلاف آية نوح فإنه لم يرد فيها ذكر للجبال فأخرها. فوضع كل لفظة في الموضع الذي تقتضيه.
قتلتم أو متم:
**ومثل ذلك قوله تعالى :
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}(آل عمران)
فقدم القتل على الموت في الآية الأولى وقدم الموت في الآية التي تليها
وسبب ذلك والله أعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى :{ في سبيل الله }وهو الجهاد قدم القتل إذ هو المناسب لأن الجهاد مظنّة القتل، ثم هو الأفضل أيضاً ولذا ختمها بقوله : { لمغفرة من الله ورحمة } فهذا جزاء الشهيد ومن مات في سبيل الله.
ولما لم يقل في الثانية { في سبيل الله } قدم الموت على القتل لأنه الحالة الطبيعية في غير الجهاد ثم ختمها بقوله { لإلى الله تحشرون } إذا الميت والمقتول كلاهما يحشره الله إليه. فشتان ما بين الخاتمتين. فلم يزد في غير الشهيد ومن مات في سبيل الله على أن يقول : { لإلى الله تحشرون } وقال في خاتمة الشهيد : { لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } فوضع كل لفظة الموضع الذي يقتضيه السياق.
متاعا لكم ولأنعامكم :
** وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}(السجدة) فقدم الأنعام على الناس. وقال في مكان آخر:
{ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}(عبس) فقدم الناس على الأنعام وذلك لأنه لما تقدم ذكر الزرع في آية السجدة ناسب تقديم الأنعام بخلاف آية عبس فإنها في طعام الإنسان قال تعالى: { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}(عبس) (الإتقان 2/14) ، ألا ترى كيف ذكر طعام الإنسان من الحب والفواكه أولاً ثم ذكر طعام الأنعام بعده وهو الأبّ أي التبن، فناسب تقديم الإنسان على الأنعام ههنا كما ناسب تقديم الأنعام على الناس ثمّ. فسبحان الله رب العالمين.
نرزقكم وإياهم:
** ومن ذلك قوله تعالى :
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (151)}( الأنعام) وقوله:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)}( الإسراء) فقدم رزق الآباء في الآية الأولى على الأبناء، وفي الثانية قدم رزق الأبناء على الآباء وذلك أن الكلام في الآية الأولى موجه إلى الفقراء دون الأغنياء فهم يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم لا أنهم يخشونه،فأوجبت البلاغة تقديم عِدَتهم بالرزق تكميل العِدة برزق الأولاد.
وفي الآية الثانية الخطاب لغير الفقراء وهم الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر لا أنهم مفتقرون في الحال،وذلك أنهم يخافون أن تسلبهم كلف الأولاد ما بأيديهم من الغنى فوجب تقديم العدة برزق الأولاد فيأمنوا ما خافوا من الفقر. (انظر بديع القرآن لابن أبي الإصبع 260 ـ 261، تحرير التحبير 561) .
فقال: لا تقتلوهم فإنا نرزقهم وإياكم أي أن الله جعل معهم رزقهم فهم لا يشاركونكم في رزقكم فلا تخشوا الفقر.
ختم الله على قلوبهم:
** ومن ذلك قوله تعالى:
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}(البقرة)، وقوله :
{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (23)}(الجاثية)
فقدم القلوب على السمع في البقرة وقدم السمع على القلب في الجاثية وذلك لأنه في سورة البقرة ذكر القلوب المريضة فقال : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10) فقدم القلوب لذلك.
وفي سورة الجاثية ذكر الأسماع المعطلة فقال تعالى:
{ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (
}(الجاثية) فقدم السمع. فوضع كل لفظة في المكان الذي يناسبها.
ثم إن آية البقرة ذكرت من أصناف الكافرين من هم أشد ضلالاً وكفراً ممن ذكرتهم آية الجاثية فقد جاء فيها قوله تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}(البقرة)
وجاء في سورة الجاثية قوله سبحانه:
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} ، فقد ذكر في سورة البقرة أن الإنذار وعدمه عليهم سواء وأنهم ميؤوس من إيمانهم ولم يقل مثل ذلك في الجاثية.
ثم كرر حرف الجر {على } مع القلوب والأسماع في آية البقرة مما يفيد توكيد الختم فقال { عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } ولم يقل مثل ذلك في الجاثية بل انتظم الأسماع والقلوب بحرف جر واحد فقال { وختم على سمعه وقلبه }.
ثم قال في سورة البقرة { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } بالجملة الاسمية والجملة الاسمية كما هو معلوم تفيد الدوام والثبات، ومعنى ذلك أن هؤلاء لم يسبق لهم أن أبصروا وإنما هذا شأنهم وخلقتهم فلا أمل في إبصارهم في يوم من الأيام.
في حين قال في سورة الجاثية { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } بالجملة الفعلية التي تفيد الحدوث ومعلوم أن (جعل) فعل ماض،ومعنى ذلك أن الغشاوة لم تكن قبل الجعل،يدلك على ذلك قوله تعالى : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } مما يدل على أنه كان مبصراً قبل ترديه. ثم ختم آية البقرة بقوله { وله عذاب عظيم } ولم يقل مثل ذلك في آية الجاثية. فدل على أن صفات الكفر في البقرة أشد تمكناً فيهم.
ولذا قدم ختم القلب على ما سواه لأنه هو الأهم فإن القلب هو محل الهدى والضلال وإذا ختم عليه فلا ينفع سمع ولا بصر قال تعالى :
{ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}(الحج).
وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"
فكان تقديم القلب في البقرة أولى وأنسب كما أن تقديم السمع في الجاثية أنسب.
لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا :
** ومنه قوله تعالى :{ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)}( النمل) ، وقوله سبحانه:
{ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}(المؤمنون)
فقدم { هذا } في الآية الأولى وأخرها في آية المؤمنون وذلك أن ما قبل الأولى { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)}(النمل) وما قبل الثانية { قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)}(المؤمنون) فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم تراباً. والجهة المنظور فيها هنا كونهم تراباً وعظاماً. ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث(الإيضاح 116) ، ذلك أن البلى في الحالة الأولى أكثر وأشد وذلك أنهم أصبحوا تراباً مع آبائهم. وأما في الآية الثانية فالبلى أقل وذلك أنهم تراب وعظام فلم يصبهم ما أصاب الأولين من البلى، ولذا قدّم { هذا } في الآية الأولى لأنه أدعى إلى العجب والتبعيد.
ذلكم الله ربكم:
** ومن ذلك قوله تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}(الأنعام)
وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)}(غافر)
فأنت ترى أنه قدم في آية الأنعام { لَا إِلَهَ إِلَّا هُو } وأخّر { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وفي غافر جاء بالعكس.
وذلك أنه في سياق الإنكار على الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص ونفى الصاحبة والولد قال :
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}(الأنعام).
فأنت ترى أن الكلام على التوحيد ونفي الشرك والشركاء والصاحبة والولد ولذا قدّم كلمة التوحيد { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } على { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وهو المناسب للمقام.
ثم انظر كيف قال { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } بعد قوله { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } فأخّر الخلق بعد التوحيد وهو نظير تأخيره بعد قوله { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } فقال { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وهو تناظر جميل.
أما في سورة غافر فليس السياق كذلك وإنما هو في سياق الخلق وتعداد النعم قال تعالى :
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} إلى أن يقول {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)}.
فالكلام كما ترى عل الخلق وعلى نعم الله وفضله على الناس لا على التوحيد فقدم الخلق لذلك فوضع كل تعبير في موطنه اللائق حسب السياق.
جاء في البرهان للكرماني: " قوله { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } في هذا السورة.وفي المؤمن { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } لأن فيها قبله ذكر الشركاء والبنين والبنات فدمغ قول قائله بقوله { لَا إِلَهَ إِلَّا هُو } ثم قال { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }. وفي المؤمن قبله ذكر الخلق وهو { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } فخرج الكلام على إثبات خلق الناس لا على نفي الشريك فقدم في كل سورة ما يقتضيه قبله من الآيات"( البرهان 161 ـ 162، درة التنزيل 127، ملاك التأويل 1/341)